هل يقف لبنان بين الفدرالية والمؤتمر التأسيسي؟
يرى كثيرٌ من اللبنانيين أنّ الأزمات المتلاحقة في البلاد تتولّد في كنف هذا النظام الذي لا يعمل بكفاءة مقبولة؛ والسبب ثغرات الدستور التي تمنع الانسجام بين قواعده العامّة وآلياته التنفيذيّة. فالدّستور اللبناني الذي تمّت صياغته في مرحلة الهيمنة الفرنسيّة وتداعيات الحرب العالمية الأولى، والذي عُدّل في ظلّ نفوذ سعودي – سوري، بعد حرب أهليّة طويلة، أفسح المجال على الدوام للعوامل الخارجيّة كي تضبط إيقاعه، خصوصاً في مرحلته الثانية. لكن الأمر تغيّر ما بعد عام 2005، حين عادت الجماعات اللبنانية إلى التّعبير عن سخطها على تعديلات الطائف التي قنّنت الطائفية، وجرّدت رئيس البلاد من صلاحياته التنفيذيّة، ولم تُرضِ طوائف شعرت بالغبن وعدم التساوي بينها وبين الشركاء المؤسّسين، في وقتٍ لم يتمّ التّمكين لرئيس الوزراء، وظلّت الأزمات تتالى!
فماذا ينتظر المواطنون من نظام ما زال يُثير سؤال الهويّة والانتماء، قبل سؤال المصالح والتنمية فيما الدستور لا يرقى فوق اعتبارات السياسة واستنسابيّتها!
يطرح البعض ممن استنكف عن تطبيق الطائف استكمالَ تطبيقه رغبةً في استقرار البلاد، فيما يطرح البعض الآخر تعديل الدستور، في وقتٍ ذهب بعضٌ ثالث إلى مؤتمر تأسيسيّ يتوافق فيه اللبنانيون على عقد اجتماعيّ يعبّر عن المرحلة التاريخية ومتطلّباتها…وهنا يعلو احتجاج كثيرين… لماذا؟
لأن سدنة الطائف المحلّيين والإقليميين يرفضون حتى السّاعة الاعتراف بعجز تعديلاته الدستورية، وليس لهم من القدرة الكثير لرعاية النظام الهجين، بالإضافة إلى تنكّرهم لموازين القوى المستجدّة.
وفي الأثناء، ثمّة من لا يجدّ سوى اللجوء إلى الحياد كي يحافظ على ما تبقى من حلمٍ رآه يوماً، ويرفض التفريط به، وإن أيقن أن قوانين الحياة أمضى، والدنيا تُغيِّر وتُبدِّل!
وماذا بشأن المثالثة؟
ثمّة هلع من فكرة المثالثة أن تكون مدخلاً لضرب الميثاقيّة والمناصفة، وإن تكن الأعداد هي المفضّلة واقعيّاً لدى صانع السياسات، وما عبارات “وقّفنا العدّ” إلا مجرّد عبارات مجاملة.
الراعي: الحلّ في تقاسم السلطة
لا يرى الدكتور باسم الراعي (أب وبروفسور الفلسفة في الجامعة اللبنانية) أن النظام في أزمة، بل يفضّل حصر المشكلة في إطار تفسير الدستور بما يُحدّد العلاقات واستقامة ممارسة السلطة بين الأقطاب، حيث “في الدولة، الدستورُ هو العمليّة كلّها، والدليل أن القوى المتعدّدة تملك قدرات واتصالات وعلاقات مع الدول الخارجية والسفارات، لكنّهم لم يستطيعوا تجاوز الآليّة الدستورية والواقع الدستوريّ، وبالتالي: إن الدول لا تمشي إلا بدساتيرها”.
وفي سؤاله إن كان في طرح البعض قضيّة أزمة النظام مبالغة، يقول د. الراعي: “بالمعنى الشامل للنظام لا.. ولكن هناك سوء تفسير للعلاقة التي تربط السلطات ببعضها، ونحن اليوم بحاجة إلى تفسير تلك العلاقة. وبعد مسيرة امتدّت من الطائف وعام 1990 حتى اليوم، يقتضي الأمر أن يكون هناك توضيح للمسألة، ما يوفّر الكثير من الالآم”.
ويرى د. الراعي أن الحلّ بتفسير العلاقات بين مؤسسات السلطة، و”أفضل مكان لتفسير العلاقة موجود تحت قبة البرلمان وليس في الشارع، دون أن يموت الناس أو أن تُجرى الاستعراضات”.
ويُشدّد على أهميّة إيمان الشعب بالدولة “لأن الناس إذا لم تؤمن بالدولة بوعيها فلن تصطلح أمور الدولة”.
ويُضيف: “هنا أحبّ أن أذكّر أن القديس أغسطينوس في كتاب مدينة الله يقول: “إذا ألغينا النظام من الدولة تُصبح الدولة مجموعة عصابات حاكمة، فكيف تحكم؟ بالأمر الواقع! ضمن النطاق الجغرافيّ وقدراتها وملكاتها التي عندها”.
المؤتمر التأسيسي لا يمكنه الخروج على الميثاق
وحول المعادلات الجديدة في البلاد والمطالبة بتطوير النظام وصولاً إلى مؤتمر تأسيسي، يقول الراعي: “إن الأزمات في تاريخ الشعوب لا تكون سبباً للقضاء على الأوضاع المتكوّنة بل لبلورتها أكثر؛ واليوم، عندما نتحدّث عن مؤتمر تأسيسي – وأنا من المتابعين – فنحن ما زلنا لا نعرف مضمون هذا المؤتمر؛ والأمر مقتصر على إشارات وتعابير، ولم يُقدّم نصّ أو ورقة لتبيان ما هو المطلوب!”.
ويُضيف: “كلمة المؤتمر التأسيسي تعني أن نبني من جديد؛ فهل الذين أطلقوا هذا القول حقيقة قصدوا هذا البُعد؟ أمّا إذا كان القصد من المؤتمر التأسيسيّ إعادة النظر بتقاسم السلطة في الدولة اللبنانية فالأمر لا يحتاج إلى مؤتمر تأسيسيّ بل الرجوع إلى تفسير معنى الميثاق الوطني، بعد ربطه بالصيغة السياسيّة التي بدأت في عام 1860، والتي رست على المناصفة في لبنان بين جناحيه المسلم والمسيحي، وليس المسيحي – المسيحي أو المسلم – المسلم؛ وذلك دون النظر إلى الحجم الديموغرافي”.
هل الحلّ بإلغاء الطائفية السياسية؟
يتساءل د. الراعي حول إلغاء الطائفية السياسية مع قناعته بأن الوضع الحالي يعيق تطوّر المجتمع ويلجم قدراته، فيقول: “في البيئة المسيحية لم يصمد اتفاق معراب مدّة شهرين، وكذلك الحال في الطائفة الدرزية بين الجنبلاطية والأرسلانية…”، ليخلص إلى أن المشكلة في داخل كلّ طائفة أيضاً لا بين الطوائف المختلفة، ما يستدعي بنظره تطوير سبل المشاركة، والإبداع في ذلك مهما تطلّب الأمر دون المسّ بالصيغة الميثاقية، ويتابع: “يجب تطوير سبل المشاركة في النظام، وليس عبر القضاء على الصيغة، بل من خلال آليّات المشاركة. لكن مشكلتنا في لبنان هي مشكلة طبيعة أو سبل المشاركة، وهي بحاجة إلى إبداع. لذا قيمة المجتمع التعدّدي أنه يخلق البنى حتى يشعر كلّ إنسان مختلف بأن حق المشاركة مكفول له”.
إذا كان المؤتمر التأسيسي لتحقيق المشاركة فلا بأس!
ويضيف الراعي: “إذا كان المطلوب من المؤتمر التأسيسي تحسين سبل إدارة المشاركة فنعم، وأنا مقتنع، لأنّني عشت في ألمانيا الاتحاديّة الدّولة التعدّديّة، وأقول إن مشكلتنا كامنة في دستورنا الفرنسيّ المبنيّ على مبدأ الدولة المركزيّة المتجانسة. ويجب أن ننطلق من هذه الدولة المركزية إلى الدولة التعدّدية، وذلك بحكم تمسّكنا بهذا الدور الحضاريّ للبنان وبتعايشه بين المسلمين والمسيحيين”.
لِمَ لا يُمكننا التفكير في الفدرالية الفاعلة؟
يُشدّد الراعي على رفض التقسيم، لكنّه يرى أنّ لبنان: “يحتمل مبدأ اللامركزية الموسّعة – ودون أن يُفهم التعبير خطأ – أو مبدأ الفدراليّة الفاعلة”، ويدعو إلى “أن نأخذ هذا الخيار لأنّه يُحسّن سبل المشاركة، وربما يكون هذا الخيار السبيل في تخفيف جموح الطوائف، فيصبح التنافس في الخير بدل التنافس في الشرّ”.
وينتقد إغفال “فكرة اللامركزية الإدارية الموسّعة التي وضعت في الطائف ولم تدخل في بنية الدستور” معتبراً أن السبب يتمثّل في “الإبقاءعلى مبدأ الدولة المركزية، ما يجعل التناقض قائماً في داخل الدستور. فالدولة المركزية هي التي تقوم بالإنماء المتوازن، وإلا وجب أن نُعيد فلسفة الدولة كلّها”.
فهل نتجه إلى مؤتمر أو شكل من أشكال المؤتمر التأسيسي؟!اولقن
لا يجد الراعي حرجاً في الذهاب إلى مؤتمر تأسيسي “إذا كان مضمونه تحسين سبل المشاركة دون القضاء على الصيغة التاريخية بين المسلمين والمسيحيين؛ فلمَ لا؟! فالدول جسمٌ ينمو ويتحرّك”.
اللامركزية حلّ تُعيقه المركزية
يشدّد الراعي على دستورية قضية اللامركزية في دستور الطائف، ويرى أن بإمكانها “أن تعطينا أفقاً أكبر، وأن تجعلنا ننتظم في عمل الدولة بطريقة مريحة. لكن مَن يقف في وجه هذا التطوّر هو مَن لديه مشروع سلطة لا مشروع دولة، لأن قيمة مشروع الدولة لدى أيّ مواطن تجعله يتخلّص من كلّ ما يُعيق تقدّمه وتقدّم المجتمع، ودائماً من ضمن المؤسسات الدستورية في الدولة”.
لذلك يدعو د. الراعي إلى “حوار وطنيّ على مستوى واسع وجدّي نفتقده اليوم”، وإن بقيَ على حذره من مؤتمر تأسيسي قد يذهب في اتّجاهات يحذرها كثيرون في وسط يملأه الطائفيون والطوائف في لبنان.
طارق قبلان